ماذا يعلمنا النمل عن الشغف والحكمة المعلبة؟

نُشرت

هذا النص متوفر أيضا: English

ماذا يعلمنا النمل عن الشغف والحكمة المعلبة؟

ليس للنمل حكمة! بل أداء متواصل بنسق واضح - رغم دورانه الكثير - أنه مقبل على مهمة محددة: البناء! لا يحرك النمل شغف الحركة أو نزعات فردية شخصية. نحن لسنا نملاً بالتأكيد، لكن يجوز لنا أن نتعلم، الفرق بين الحكمة المعلبة والتجربة: بتأمل النمل ومستعمراته، وعالم الحكمة المراوغة في السوشال ميديا.

توقفت على منشور عبر لينكد-ان، حصد مئات الإعجابات وإعادة النشر، يقول ببساطة: "If you Don't Belong, Don't Be Long". حكمة بالغة! محاججاً: لا تبق في مكانك ما دمت لا تشعر بالانتماء... حتى لا ينطفئ "شغفك".

الشغف مهم، لكنه ليس عماد الحياة. ولا محرك المسؤولية والإبداع. من منا شغوف بمسؤولياته؟ هذه مشكلة واجهتها بصعوبة مع أحد شركائي السابقين. حيث كان "الشغف" و"المسؤولية" طابع كل نقاش حول التأخير، أو جودة العمل، أو مشاكل الإنجاز، وما إلى ذلك. لا يوجد إنسان على هذه الأرض، آت من المريخ! كلنا نتشارك جنس "البشر" وينطبق علينا ما ينطبق اجتماعياً وسلوكياً، وكلنا لديه مشاكله التي ربما تخفض أو ترفع من شغفه.

لا تُبنى المجتمعات بهذا النهج العشوائي. نعم، يجب على الإنسان أن يعرف قيمته وأن يضع قلبه وشغفه في المكان الصحيح. أفهم أن هذه النصيحة في "منشور الشغف" هي من باب التشجيع "الريادي"، لكن الأولوية هي البناء، وليس الفناء في دوامات الذاتية. ماذا لو كان الشخص لا يشعر بالانتماء لأي مكان؟ هل يواصل التنقل من مكان إلى آخر، مساهماً بذلك في الهدم بدل البناء؟

هل النمل شغوف جداً ببناء مستعمراته؟ أم أن حركته ضرورة وجودية؟

الشغف ذريعة الكسالى

الكسول وحده من يحاجج بالشغف لعدم قدرته على التحمل. بيئات العمل، على وجه الخصوص، أصبحت صعبة ومتشعبة جداً ويصعب فهمها بشكل سريع، لما يفرضه الوضع ذاته، وإنسان "زمن التكنولوجيا" يميل طبعاً إلى الراحة. تحديات كثيرة تفرضها هذه البيئات تسوق الإنسان إلى مساءلة قدراته ومهاراته - وهذا لا بأس به - لطالما قدر على أن يفهم أنه بحاجة للوقت ليكون مشاركاً وعاملاً فاعلاً في البناء. ثم الالتزام تجاه نفسه أولاً، بمواصلة التعلم، والتجريب، والخطأ، والفشل، والنجاح.

الشغف مفهوم عابر أمام كينونة الإنسان. بصفة عامة، حالة "الشغف" أو التسامي الروحي إن صح وصفه، هي حالات مؤقتة يمر بها الإنسان في أي تجربة أو مسعى. مثل الخشوع، بوصفه اتصالاً روحياً لا حركياً، لا يدوم، فهل يكف الإنسان إذا فقد هذا "الشغف" عن صلاته؟ ولنأخذ الحب تالياً كمثال، معروف كيف هي بداياته، وتلك الاشتعالات التي تكشف عن الشعراء، إن انطفأت جذوة "الشغف" فيه، هل يكف الزوجان أن يكونا زوجين؟ هذا "استسهال" في فهم تعقيدات الإنسان، وفي هذه الحالة، هو دعوة للإباحية، ربما!

والصدق مثلاً، من حيث هو سلوك، هل يكذب الإنسان لأنه يجد شغفاً في ذلك؟

الشغف، بالطريقة التي يُطرح بها، هو مجرد أداة هدم يوظفها أصحاب التفكير الريادي الحديث، لبناء الجمهور ومن ثم قنوات الربح الوفير: مدرب حياة (أعتقد للمرة الأولى في التاريخ أصبح ما يُسمى بمدرب حياة)، باني قدرات، شغوف كبير... هل يعلق طبيب الطوارئ معالجته للجرحى على شغفه؟

طبعاً، فرق كبير أن تعمل في بيئة غير صحية، أو مسمومة، أو سمها ما شئت. الفرق واضح. وبين أن كلمة أو موقفاً ما أشعرك بعدم الانتماء فتأخذ في بناء مئات السيناريوهات في عقلك، ثم تفتح لينكد-ان وترى البوست البراق: اترك عملك إذا لم تجد شغفك.

عزيزي، من كتب هذا البوست ليس شغوفاً بالقدر الذي تتخيل. هو فهم، فقط، كيف تحب الخوارزميات هذا النوع من المحتوى - لقوة التفاعل - ويستغله لبناء استقراره ودخله. لن يجازف بقدر "نملة" أن يترك عمله، ليثبت لك أنه شغوف مثلما توحي منشوراته. لكنه مستعد لأن يعبث بأفكارك حول الحياة والمسؤوليات.

الحكمة المعلبة: سلعة من لا سلعة له

رائج على منصات التواصل ما يمكن أن نسميه "الحكمة المعلبة". ينطبق هذا التوصيف على أنواع المنشورات المختلفة سواء كانت عن جودة الحياة، أو العمل، أو التوظيف، أو اللايف كوتش، أو الرياضة، وغيرها. يختار المؤثرون هذه المنهجية لأنها، أولاً تخفف عنهم عبء الإنجاز والتكثيف، ولأنها جذابة بمفهوم التسويق. الكثير من هذه الحكم صحيحة من حيث المعنى العام، لكنها غالباً ما تكون ناقصة من حيث السياق والمبنى. لمحات عابرة تستوقفك ربما لجمال التصميم أو بريق الكلمات، أو وعود بأنك ستصبح خارقاً في ستة أيام. لكنها، بكل تأكيد، لن تعيش معك كأداة لتحسين عملك، أو جودة حياتك، أو روتينك الرياضي.

المفارقة، أن منصة لينكد-ان بدأت بهدف التواصل المهني وتبادل الخبرات الاحترافية، فتلقائياً يُفترض أن يكون المحتوى احترافياً. لكن سيولة هذا العالم، والتي نشارك بها بكل تأكيد، حرفت الاتجاه نحو الربح، فكان لا بد لصناع القرار فيه ملاحقة آليات الجذب، فتحولت إلى منصة "حكم معلبة" نادراً ما تجد نقاشاً جاداً حول آلية إدارة مثلاً، أو نمط تصميمي أو معماري معين. ربما كان أبي محقاً عندما قال أن المعرفة باقية في مصادرها الأصلية، كالكتب ربما.

لا يبدو هذا صحيحاً بالكلية، فقبل عصر السوشال ميديا، كان هناك المنتديات، نعم تبدو الكلمة من عصر الديناصورات، لكنها حقيقية. المنتديات، على رداءة تصميماتها البصرية وقتها، كانت منصات فعالة لتبادل المعرفة والآراء. لم يكن هناك داع للتجميل، كان المعنى هو المحور. الخلاصة، أن الأدوات هي رهن استخدامها.

وإذا لم تفهم مبدأ التعليب:

الحكمة المعلبة هي ما تراه غالباً في المنشورات التفاعلية "carousels" عبر لينكد-ان مثلاً. نتصفح يومياً العشرات من هذا النوع. لا نستطيع تذكر واحد أو اثنين منها. وبعيداً عن عبثية هذه الوسيلة، يُرجح أنها تساهم في تقليل فترات الانتباه لدينا، ما يؤثر مباشرة على التركيز والإنجاز.

هي ما يصنعه المؤثرون من جمل مصغرة - سواء من محتواهم أو من محتوى أصيل مختلف، على شكل توجيهات حياتية أو عملية، مضخمين بذلك فكرة على حساب أخرى، دون أي منهج أو بحث. والأخطر، دون أي تجربة. التجربة هي أساس المعرفة. ودونها لا يمكنك ادعاء الحكمة. لا أريد أن أعقد النقاش أكثر. ما أريد قوله: أن نُعلي التجربة على الحكمة "المعلبة".

تُفهم التجربة في هذا السياق من أكثر من منظور، لنأخذ مثال بوست الشغف. التجربة في هذا السياق هي خصوصيتك، قبل أن تضع لايك متهوراً، هل تتماشى تجربتك مع هذا المفهوم، ويُرجى التركيز على "التجربة" وليس "الشعور"، مثل شعورك تجاه عملك مثلاً. تجربتك الخاصة تشمل وضعك المادي، وحالتك الاجتماعية، ومكانك الجغرافي، وقدرتك على تحمل المغامرات أو التغييرات الدراماتيكية غير المحسوبة، والوقت الذي تحتاجه لبناء معرفة مناسبة لشغفك الجديد، المعايير والأسئلة لن تنتهي في هذا السياق. في الحقيقة، نهج الشغف يتنافى ويتناقض مع معظم النماذج العقلية، ويسقط أمام أول تفكيك وتحليل للتجربة. حاول تطبيق مفهوم دائرة الكفاءة مثلاً. عزيزي، لا يمكنك ببساطة اتخاذ قرار مصيري بناء على بوست ترويجي عن العبث.

كخلاصة، الحياة وتجاربها الحقيقية معقدة ومتشعبة جداً، والحكمة المعلبة - غالباً هدفها ربحي - تتجاهل هذا التشعب، وتقدم حلولاً مبسطة وغير واقعية، لمشاكل معقدة. ابحث وابن أدوات فكرية وعملية تساعدك على البحث والتفكيك ثم القرار. لا تتبع شغفك ببساطة بل ابنه وطوره.

دائرة النمل ونقطة الإنسان

سؤالنا الأساسي: ماذا يعلمنا النمل عن الشغف والحكمة المعلبة؟ في الحقيقة النمل لا يعلم شيئاً عن كل حياتنا الفكرية. لا نعرف أصلاً إذا كان لديه وعي بوجوده. المهم أن نتعلم منه عن البناء والهدم! هذا المفهوم مهم في حديثنا. ليس الأمر مجرد ملاحظة عابرة لبوستات على السوشال ميديا، بل يتعدى لفهمنا لما يجري. الاتجاه الحالي على هذه المنصات، هو اتجاه "الفردية" - مثلما تفرضه الحداثة السائلة. والمؤثر الذي يُفترض أنه متخصص حقيقي، يُفترض أيضاً أن يساهم في البناء لا الهدم.

لا يكون البناء بتداول حكم مختصرة غير مدروسة يمكن أن تراكم أفكاراً هدامة لدى القراء، خصوصاً أنها بلا سياق. لو كنت تقرأ مثلاً كتاباً في موضوع "هدام"، أنت على الأقل تحصلت على السياق، وعلى كثير من المعلومات والمعرفة. وستضعك القراءة في دائرة النمل: حركة مستمرة لأجل هدف ما، لا على نقطة القرار الانفعالي.

نهج الشغف يشجع على "فردانية الحداثة"، متجاهلاً أن القوة المجتمعية تُبنى تدريجياً بالتكاتف والصبر والإرادة. لا يصح أن تكون المؤسسات المدنية والأسرية وحتى الشركات عرضة للأهواء الشخصية. لا تتنازل عن حقوقك طبعاً، هذا سياق آخر، لكن لا بد أن تبني التزاماً وقدراً من المسؤولية. لأنك كإنسان، هكذا وُجدت، ماذا تفعل لو فقدت شغفك بكونك إنساناً؟ وُجدت في مجتمعات تُبنى بالصيرورة والمواصلة والمراكمة، لا بالعبث والهوى. فلتكون بانياً، شرط أن تكون صبوراً وملتزماً. لكن يكفيك اندفاعة شعورية واحدة غير مدروسة، لتهدم ما بنيت.

في مديح الشغف

يُعرف الشغف، في هذا السياق، أنه شعور قوي ومُلِحّ بالاهتمام أو الرغبة أو الحماس تجاه شيء ما، سواء كان شخصًا، أو فكرة، أو نشاطًا، أو هدفًا. إذا هو "عاطفة قوية" تتجاوز مجرد الاهتمام العادي، فيحتاج نوعا من الذكاء العاطفي للتعامل معه، وتوجيهه، واستغلاله، هذا ما يعرف أحيانا بالشغف التوافقي، حيث يكون ناتجا عن اختيار واع. بعكس النوع القهري الخارج عن السيطرة، الذي يسبب الإرهاق والضغط النفسي، ويؤدي إلى إهمال جوانب الحياة الأخرى. لكن لنأخذ الجانب المشرق من التعريفات بأنه يرتبط بالرغبة في العمل، وتحقيق النجاح، ويكون مصدرا قويا للتحفيز الداخلي والإلهام والتركيز.

وهذا كله شيء جميل - فلا أتهم بأني معادٍ للشغف.

الفكرة ليست بوجود الشغف كشعور طبيعي لدى الإنسان،كأي إحساس فطري. بل كيف يُستخدم ويُعبر عنه في سياقات غير متصلة - عبر السوشال ميديا. وكيف يعالج أيضا من قبل الشخص نفسه. نرى كذلك كيف أن الشغف كمفهوم، في التعليمات الدينية والتأملات الفلسفية أيضا، يُتناول بجدية وصرامة، ولا يُترك الباب مواربا للهوى.

إذا يمكن أن نفهمه على وجهين، الوجه الأول: المحرك، وهذا معنى بائس ولا يمكن أن يكون صحيحا. والوجه الثاني: الشرارة، أو الحافز، أو المساعد. وهذا معنى ضيق لا يتسع لحياة الإنسان بأكملها. جميل ومهم، لكن ليس المحرك الأساسي لدى الإنسان.