في إشكالية الأصالة: بيان فلسفي أول في عصر السيولة

نُشرت
في إشكالية الأصالة: بيان فلسفي أول في عصر السيولة

كيف نتحدث عن الأصالة دون الوقوع في فخ استخدام المفهوم بشكل ساذج؟ جواب هذا السؤال أصعب مما تخيلت وأنا أبحث في هذا المفهوم الشائع والمغلوط كثيرا. هل الأصالة في السياق الفلسطيني، مثلا، لبس الكوفية، في معرض الأصالة الاجتماعية، أم أن "التجربة الفلسطينية" الحالية، تفرض أصالتها - أصالة الضرورة - إبراز الكوفية بشكل متكرر كرمز؟

هل يمكن للتفكير أن يكون أصيلاً تماماً؟ إذا كان يستخدم لغة متوارثة ومفاهيم مستعارة ومنطق متعلم. الحقيقة أن اللغة نفسها لا يمكن أن تكون أصيلة مطلقة.

وأنا أكتب هذا متأثر بالفلسفة الغربية، منطلقاُ من أسس دينية، وأحيا ضمن منظومة تراثية اجتماعية لها خصوصيتها، هل يمكن ألا أكون أصيلاً؟ هذا ليس سؤالاً نظريا - إنه مأزق إذا سلمت بأن الأصالة ثابتة، وإن كان تناقضاً، فالتناقض بلا شك يحمل دائما إلى المعنى والأصالة.

إضافة إلى كوني مبرمجاً، دائما ما تتقاطع مثل هذه الأسئلة الوجودية مع استخدامي للغات البرمجة. الإنسان اخترع اللغة للتواصل ومبادلة الأفكار، ثم اخترع لغات جديدة من نوع آخر كوسيلة تفاهم بينه وبين الآلة. هذه الجملة مُشكلة بذاتها، إذا كان الإنسان هو مخترع اللغتين والآلة، لماذا يحتاج للغة وسيطة بينه وبينها؟ طبعا الجواب التلقائي واضح، وهو حجة على غياب مفهوم الأصالة المطلق. هل القدرة التي تحملها لغات البرمجة، إلى جوانب التقنية الأخرى، على خلق أنواع أخرى من المعرفة وأشكال بصرية معقدة، هو ضد أصالة الإنسان؟ والمبرمج الذي يكتب يوميا مئات الأسطر من لغة غير محكية، هل يفقد أصالته واتصاله الصحيح مع اللغة؟

كثر الحديث عن الأصالة في العصر الحالي، لاتساع رقعة المعرفة، أدوات التواصل أصبحت لا تحصى، الذكاء الاصطناعي وضع الإنسان في مأزق الأصالة. في كل قفزة نوعية في حياة الإنسان يساءل نفسه عن "أصالة هذه القفزة"، فما الذي يدفع الإنسان إلى هذا القلق؟ هذا القلق الذي هو بذاته من صنعه وأصالته.

نقاش "أصالة الذكاء الصناعي" كان مدخلي إلى هذا الموضوع، كتبت مقالاً باللغة الإنجليزية بعنوان "عن النية والدليل: لماذا نطرح الأسئلة الخاطئة حول الذكاء الاصطناعي"، لاحقا لهذا المقال، وجدت نفسي بشكل طبيعي أغوص في مفهوم الأصالة بشكل متشعب، لأن الحديث عن هذا المفهوم الآن بالضرورة، ليس ترفاً فكرياً أو حنيناً رومانسياً للماضي. إنه استجابة لأزمة حقيقية في المعنى والهوية. عصر التكنولوجيا والعولمة والذكاء الاصطناعي يطرح أسئلة جديدة حول ما يعنيه أن تكون إنساناً. عندما تستطيع الآلة أن تكتب الشعر وترسم اللوحات وتؤلف الموسيقى، ما الذي يبقى "أصيلاً إنسانياً"؟

سابقا لموجة الذكاء الصناعي، وسائل التواصل الاجتماعي خلقت ثقافة الأقنعة المتعددة، حيث يمكن لأي شخص أن يُقدم نسخاً مختلفة من نفسه حسب المنصة والجمهور. هذا التشظي يجعل السؤال عن "الذات الحقيقية" أكثر إلحاحاً وأكثر تعقيداً. من هو الأصيل: الشخص على إنستغرام أم على لينكدين؟ أم أن كلاهما أقنعة لشيء آخر؟

والعولمة الثقافية جعلت الحدود بين "الأصيل" و"المستورد" أكثر ضبابية. الطعام الذي نأكله، الموسيقى التي نسمعها، الأفكار التي نفكر بها - كلها خليط من تأثيرات متعددة المصادر. في هذا السياق، يصبح البحث عن الأصالة محاولة لفهم الذات في عالم بلا حدود واضحة.

المأزق الحقيقي أن هذه الأدوات التي تُهدد الأصالة (التكنولوجيا، العولمة، السرعة) هي التي تُمكننا من طرح أسئلة أعمق حولها. بل إن الخوارزميات صارت شريكًا غريبًا في تشكيل تصوراتنا عن الأصالة، من خلال ترويجها لبعض الرموز وإهمال أخرى، وهو ما سنعود إليه حين نناقش اقتصاديات المعنى. نحن نستخدم الإنترنت للبحث عن الأصالة، نستعين بالذكاء الاصطناعي لفهم الإبداع الإنساني، نتواصل عبر الحدود لنفهم هوياتنا المحلية.

إذا، هل يشعر الإنسان دائما بفقدان الأصالة؟ إن كان هذا الشعور مستمراً فهو دليل على أن الأصالة المطلقة، والتي سأتناولها بالتفصيل، غير موجودة، وهي من رومانسيات التفكير. أما إذا كان هذا الشعور هو من محفزات التصاعد المستمر والمراكمة المتواصلة، فهو جدير بالثناء، وهو الأصالة الحقيقية التي يمتلكها الإنسان.

إذا كان هذا الشعور "بالنقص" متواصلاً، فالأفضل أن ينظر للأصالة على أنها عملية مستمرة أيضا، وليست حالة ثابتة، بل متصلة حيويا بالسياق والتجربة. وبهذا تكون مهمتنا تفنيد "الأصالة المتعالية أو المعلبة" ومديح "الأصالة السائلة" لأن التفكير الخطي في موضوع كالأصالة، هو تفكير خطير وهادم، بل معيق لتجربة الإنسان وتطوره المستمر. إذا أقررت بخطية الأصالة، أنت تحكم عمليا على رداءة المفهوم واستحالة استحضار المعنى.

ولذلك، لا بد أن يكون الشك أساسياً لعملية الأصالة السائلة. إذ لا يمكن للفرد أن يأخذ الحكمة جاهزة ومعلبة ومن ثم يدعي الأصالة. لا بد أن تمر العملية بالتفكيك والتحليل النقدي - الشك البناء - بهدف فحص أصالة الشيء. أما الشك في الأصالة بذاتها، فأعتقد أن هذا السلوك تنامى في العصر الحديث، أو بالأحرى تأسس لمفهوم الأصالة بشكله الرومانسي والشعوري المعاصر.

وهذا الشك يطرح تلقائيا سؤالاً بديهياً: متى بدأ الإنسان بالشك في "أصالة" أفعاله؟ لا يمكن أن يكون الإنسان الأول قد شك في أصالة أفعاله، أو هكذا يصور لي على الأقل، إنما الضرورة الوجودية كانت المحرك وراء كل فعل. لكن أعباء الحداثة وخصوصا الحداثة السائلة، تسوق الفرد إلى هذه المساءلات غير المجدية. ما يقف أمام هذه السيولة التي تفرضها الكيانات الصلبة - العسكرية والرأسمالية - هو ما أسميه الدوائر السائلة، وهو مفهوم سأعود إليه في فصول لاحقة.

أميل إلى النظر لمأزق الأصالة كظاهرة حديثة، ناتجة عن انتقائية وغربلة تراثية، أو حالة نكران إنساني، لأن المجتمعات تميل إلى انتقاء الجميل والمشرق من تاريخها ورفض الباقي، ثم تبنى أصالتها على ما اختارته. وهذه عملية ممتازة. لكن حصر الأصالة بها، لا يبدو صحيحاً. ما مقدار الذي لا نعرفه عن تاريخنا مقابل ما نعرف؟ ماذا لو كان هناك شيء أكثر "أصالة" مما نعرف؟

وربما ترتبط هذه الظاهرة بما أسماه آلان دو بوتون "قلق السعي إلى المكانة" - قلق الأصالة هو نوع من أنواع قلق المكانة. كلما أصبحت المقارنات أسهل والخيارات أكثر، كلما ازداد قلقنا حول "أصالة" اختياراتنا. في مجتمع تقليدي محدود الخيارات، لا يشك الحرفي في أصالة حرفته - هي ما ورثه وما يعيش منه. لكن في عالم بلا حدود واضحة، حيث كل شيء متاح ومكشوف للمقارنة، يصبح كل اختيار محل شك وتساؤل.

هذا الوعي الذاتي المفرط والقدرة على المقارنة والتأمل الفلسفي يجعل كل شيء قابل للشك. كلما زاد وعي الإنسان بتعقد هويته وتركيبها من طبقات متعددة، كلما ازداد شكه في "نقاء" أصالته. هذا الشك ليس علامة ضعف، بل علامة نضج فكري - المشكلة تكمن في التعامل معه بطريقة خاطئة.

قبل أن نخوض أكثر في جدليات الأصالة، لا بد من تفكيك الكلمة نفسها. "الأصالة" تأتي من الجذر العربي "أ-ص-ل" والذي يعني القاعدة والأساس والمنبت. "الأصيل" هو المنسوب للأصل، و"الأصالة" هي صفة الانتماء لهذا الأصل. لكن أي أصل؟ ومن يحدده؟

في الاستخدام المعاصر، تداخلت معان متعددة حول كلمة الأصالة. هناك الأصالة التاريخية التي تعني الانتماء للماضي والتراث، وتظهر لدى الأصوليين بشتى مجالاتهم. وهو أقرب إلى التقديس منها إلى الحاجة الملحة للبحث عن نقطة ذهبية كمرجع ضروري. هذا النوع يقيس قرب الشخص أو الجماعة أو العمل من النموذج التاريخي المفترض. ويعتبر الابتعاد عنه نوع من الخيانة. وهناك الأصالة الثقافية التي تركز على التمسك بالخصوصية الحضارية، رفض الذوبان في الثقافات الأخرى والحفاظ على الهوية المميزة. هذا المفهوم يظهر في مقاومة "الغزو الثقافي" أو "التغريب"، في الإصرار على اللغة المحلية مقابل العالمية، في رفض الأشكال الفنية "المستوردة" لصالح الأشكال "الأصيلة". لكن المفارقة أن معظم ما نعتبره "ثقافة أصيلة" هو نتاج تفاعل تاريخي مع ثقافات أخرى، وأن النقاء الثقافي المطلق وهم لا يمكن تحقيقه في عالم متصل.

أما الأصالة الشخصية والتي تعني الصدق مع الذات، أن تكون "نفسك" دون تصنع أو تقليد، أن تعبر عن شخصيتك الحقيقية بعيداً عن ضغوط المجتمع أو توقعات الآخرين. هذا المفهوم يغذي صناعة المساعدة الذاتية وكتب "اكتشف ذاتك" والعلاج النفسي القائم على "إزالة الأقنعة". لكن السؤال المحير: إذا كانت شخصيتك تتشكل من خلال التفاعل مع الآخرين والثقافة المحيطة، فأين تكمن هذه "الذات الأصيلة" التي يجب اكتشافها.

والأصالة الفنية تقوم على عدم التقليد والإبداع المستقل، أن يطور الفنان أسلوبه الخاص دون محاكاة الآخرين. هذا المفهوم يقدر "الصوت الأصيل" و"الرؤية الفريدة" ويحتقر "التقليد" و"المحاكاة". لكن كل فنان يبدأ بتعلم تقنيات موجودة، باستخدام أدوات ومواد طورها آخرون، بالاستجابة لسياق ثقافي محدد. حتى أكثر الأعمال "أصالة" تحمل آثار تأثيرات متعددة، والسؤال يصبح: متى تتحول المحاكاة إلى إبداع؟ وأين الخط الفاصل بين التأثر والتقليد؟

وأخيراً الأصالة الوجودية التي تعني العيش بصدق مع الظروف الحقيقية، مواجهة الواقع كما هو دون هروب أو أوهام أو تجميل. هذا المفهوم فلسفي عميق يدعو لتحمل مسؤولية الاختيارات والتصالح مع حدود الإمكانات البشرية. لكنه أيضاً يطرح أسئلة معقدة: ما هي حقيقة الوجود التي يجب مواجهتها؟ وهل يمكن للإنسان أن يكون "صادقًا" مع واقع قد يكون قاسيًا أو غير مرغوب فيه؟

هذا التداخل يخلق إرباكاً مفاهيمياً. عندما نقول "كن أصيلاً" فماذا نعني تحديداً؟ أن تتبع التراث أم أن تكسره؟ أن تقلد الأجداد أم أن ترفض التقليد كلياً؟ هذا الإرباك يخلق مجموعة واسعة من المغالطات والمصائد التي تشوه مفهوم الأصالة وتضعه في غير سياقه الصحيح. والأخطر هو تحول هذه المغالطات إلى سلع: فالكوفية تُباع كإكسسوار عالمي، والحناء تُسوَّق كموضة عابرة، بينما تُرفض على أجساد نساء محجبات في الغرب. من يملك حق تعريف الأصالة حين تصبح أداة للاستبعاد أو الاستهلاك؟

لعل أبرز هذه المصائد هي العصر الذهبي المفقود: الاعتقاد بوجود لحظة تاريخية "أصيلة" يجب العودة إليها. سواء كانت عصر الخلافة الراشدة، أو فترة ما قبل الاستعمار في السياق العربي، أو أمريكا "العظيمة مرة أخرى" في الحنين لخمسينات القرن العشرين، أو تمجيد اليونان الكلاسيكية كمهد الديمقراطية الأصيلة، أو الحنين لعصر الساموراي في اليابان، أو تمجيد حضارات الأزتك والإنكا في أمريكا اللاتينية، أو أفريقيا "ما قبل الاستعمار"، أو الهند الفيدية كعصر هندوسي "خالص". هذه المصيدة عالمية وتتجاهل أن كل عصر "ذهبي" مزعوم كان يحمل تناقضاته الخاصة - العنصرية في أمريكا الخمسينات، العبودية في أثينا الديمقراطية، النظام الطبقي القاسي في الهند القديمة، التضحية البشرية عند الأزتك، الصراعات القبلية في أفريقيا القديمة. كل عصر كان يواجه التحديات والتساؤلات ذاتها حول الأصالة، لكن المسافة الزمنية تجمّل الماضي وتخفي تعقيداته.

ومصيدة الطبيعة البشرية الثابتة: افتراض وجود جوهر إنساني ثابت و"أصيل" يجب اكتشافه أو الحفاظ عليه. نراها في البحث المحموم عن "الذات الحقيقية" في علم النفس، أو "الشخصية الأصلية" قبل التأثيرات الخارجية، أو في الفلسفة الوجودية عن "الوجود الأصيل" المدفون تحت طبقات التكييف الاجتماعي. حتى في الحركات الروحية نجد السعي لاكتشاف "الطفل الداخلي" أو "الحكمة الفطرية" كأنها كنوز مدفونة في أعماقنا تنتظر الاستخراج. هذا التفكير يتجاهل أن الإنسان كائن متطور ومتغير بطبيعته، وأن ما نسميه "طبيعته" يتشكل عبر التفاعل المستمر مع البيئة والثقافة والتاريخ. لا يوجد "إنسان أصلي" يمكن استخراجه من سياقه، فحتى أبسط ردود أفعالنا محمولة على تجارب سابقة وتأثيرات ثقافية. الإنسان ليس بصلة نقشّر طبقاتها للوصول للب، بل هو مجموع كل هذه الطبقات والتفاعلات.

الفردانية المطلقة، وهي من أخطر هذه المصائد والمغالطات: الظن أن الأصالة تعني عدم التأثر بأي شيء خارجي، أن تكون "نسيج وحدك". هذا الوهم ينتشر في ثقافة "اتبع قلبك" و"كن نفسك" و"لا تقلد أحداً" كأن الذات شيء منفصل عن العالم يمكن اكتشافه في عزلة تامة. وهنا بالضبط تكمن مغالطة الأصالة المطلقة - الاعتقاد أن بإمكان الإنسان الوصول لحالة أصالة "خالصة" غير ملوثة بأي تأثير خارجي. الحقيقة أن حتى رفضك للتأثر هو نوع من التأثر - أنت ترفض شيئاً محدداً لأسباب تشكلت في سياق اجتماعي. اللغة التي تفكر بها موروثة، المشاعر التي تشعر بها لها أسماء تعلمتها، الطرق التي تعبر بها عن "فرديتك" متاحة لك من خلال ثقافتك. حتى العزلة هي موقف ثقافي تعلمته من مكان ما. الأصالة المطلقة وهم لأن الإنسان كائن اجتماعي حتى في لحظات عزلته، ولا يمكن لأحد أن يبدع أو يفكر أو حتى يتمرد في فراغ كامل منفصل عن العالم.

الشكل والمظهر، أي الخلط بين المظاهر الخارجية والجوهر الداخلي، كأن نحكم على أصالة شخص من ملابسه أو لهجته أو طقوسه الدينية، دون النظر لعمق تجربته أو صدق علاقته بهذه الممارسات. في السياق الديني، عادة ما تكون الجماعات الدينية، هي مصدر قلق الأصالة. مثلا في الحالة الصوفية - التي تتناقض أصلا مع مفهوم الأصالة - فكرة الطرائقية بلباسها وحركاتها وتراتبيتها وما إلى ذلك، أنظر إليها بأنها ضد روح الدين، وبالتالي مصدر قلق للأصالة الدينية. هناك فرق شاسع بين الصوفية الشعورية، بوصفها شعور مثل أي شعور إنساني آخر عرضة للتذبذب، وبين "مأسسة الشعور" أي فرض الشعور داخل تنظيم وهيكل ما.

وفي مصيدة الحنين الرومانسي حيث تجميل الماضي والحاضر على حساب الحاضر، واعتبار كل ما هو قديم أصيلاً وكل ما هو جديد مشكوكاً فيه. هذا يؤدي للجمود وعدم القدرة على التطور أو التكيف مع التحديات الجديدة. الحنين كلمة شاعرية، والإنسان كائن عاطفي بشكل فطري، لكنه أيضا كائن مفكر. لذا لا يجب النظر إلى الماضي كمرجعية أصولية. هو أرشيف وقاعدة بيانات إرشادية، لأنه لا يمكن ببساطة أن ننسى سمات الماضي من فقر وجوع ومرض وجهل، ونرفض مثلا آليات الإنتاج الشامل بشكل أعمى - مع أننا جميعا مستهلكون لإنتاجات هذه الآلات الضخمة - لمجرد أنها لا تشي بالحنين إلى الماضي.

مغالطة أخيرة، وهي النية والدليل. يبحث الأصوليون - إن صح التعبير - في الأعمال الأدبية والكتابية وحتى الفنية عن النية والدليل. نية صاحب العمل على ما يقدمه من خلال الشكل النهائي الذي يقدمه والدليل من بنية النص أو العمل ومعناه. لكن هناك مغالطة كبيرة جداً في هذا النهج. المعنى لا يتشكل بناء على نية الفاعل، ولا حتى عن قصده. المعنى يتشكل بشكل طبيعي لدى المتلقي، القارئ أو المتأمل للعمل. يبدو أن هذه الفجوة الضخمة في المفهوم هي من أسباب الإشكاليات في تداول مفهوم الأصالة. إذ لا يوجد بشكل عام معنى للشيء بذاته دون إسقاطاتنا عليه. وقياسا على ذلك حتى الأعمال الأدبية والفنية، وإن كان وراءها قصد، يستحيل بناء المعنى لدينا دون إسقاطات وتقاطعات مع مخزونات فكرية وتجارب واعية. لذلك. وهذا يؤكد أن الأصالة هي التجربة. تجربتي مع النص ستحدد أصالته بالنسبة لي. أما بالنسبة للنص، لا يمكن تأكيد أصالته من حيث هي "المصدر الأول" لأنه كما ذكرت سابقا، لا يوجد ما يسمى مصدر أول أو مصدر مطلق. وإن كان الدليل الذي يبحثون عنه بنيويا، فهو أيضا عبث. لأن اللغة، أو تقنيات الرسم وأساليبه، متطورة ومتشابكة ومتراكمة عبر عصور، لا يمكن لأي شخص أن يضع يده على النقطة الأولى. فهل من يرسم باستخدام التكعيبية، لا يقدم أعمالا أصيلة، لأن التكعيبية مدرسة مختلفة عن مدرسته الأولى؟ وهل من يكتب بنبرة فلسفية أحيانا وأحيانا أخرى بنبرة أدبية، لا يكتب بأصالة؟

في زمن الذكاء الصناعي، أصبح هاجس البحث عن النية والدليل أكبر. هل يبحث الإنسان باستمرار عن الأصالة لأنه يعتقد أن واقعه الحالي التقني المتطور، ليس واقعا إنسانيا؟ أو ليس من المفروض أن يعيش الإنسان هذا الترف التقني؟ ربما لديه خوف من تلاشي إنسانيته في ظل هيمنة القدرة الفائقة للآلة وذكائها. لكنه ينسى أن هذه الآلة ليست أصيلة بالمفهوم الذي يتبناه. إنها عمليات معقدة برمجها وبناها الإنسان، وعلمها من أعمال الإنسان، فالذكاء الصناعي لا يخترع نصوصا أو فنا من خارج الكرة الأرضية، بل يتغذى على ما يزوده إياه المبرمجون والمهندسون. أما قضية الملكية الفكرية فهذا نقاش آخر، بحاجة لتقنين عملية الذكاء الصناعي وليس محاربتها. من جانب آخر، عندما يبحثون عن النية من استخدام علامة ترقيم معينة أو صيغة كلامية معينة من باب هل هي من قصد المؤلف أو مجرد قرار إحصائي اتبعته الآلة وقررت استخدامه؟ أعتقد أن هذا السؤال معيب (بضم الميم وفتحها معها ليعطي المعنيين).

من كل ما سبق، لا بد أن نعترف بتعقيد المفهوم. ولمحاولة مقاربة هذا التعقيد، أستعير هنا مفهوماً طورته في سياق تحليل رمزية الدائرة - كشكل هندسي أولا - في الفن الفلسطيني المعاصر وهو "خطية الشفاء ودائرية التعافي" أو بشكل أعم "المنهج الدائري"، وأرى أنه ينطبق تماماً على مفهوم الأصالة. هناك فرق جوهري بين من يبحث عن الأصالة كـهدف نهائي يُحقق مرة واحدة، ومن يفهمها كـعملية مستمرة تتجدد يومياً.

خطية الشفاء في الأصالة تنطلق من المفهوم الغربي المتفائل - فكرة أن الإنسان يستطيع الوصول لحالة أصالة كاملة، خالية من أي تأثير خارجي. هذا المفهوم يقول: "كنت مُقلداً، الآن أصبحت أصيلاً". كأن الأصالة مرحلة نهائية نصل إليها ونستقر فيها.

هذه أصالة الامتياز - أصالة من يستطيع أن يختار معنى هويته، من يملك الترف النفسي للبحث عن "الذات الحقيقية" دون قيود خارجية. إنها أصالة من يستطيع أن يقول "لا أريد أن أكون كأحد" دون أن تكون له التزامات حيوية تجاه مجتمع أو تراث أو ظروف قاهرة.

دائرية التعافي في الأصالة مختلفة جذرياً. التعافي يعترف بأن التأثيرات الخارجية لا تُمحى، بل نتعلم كيف نحملها ونتفاعل معها. لا نتجاوز التراث والمجتمع بل نتعلم كيف نتعامل معهما بوعي. الأصالة هنا حركة دائرية - نعود إلى الأسئلة ذاتها لكن بوعي أعمق، نمر بالتحديات نفسها لكن بأدوات أكثر تطوراً.

الفلسطيني الذي يرتدي الكوفية لا يبحث عن أصالة "خالصة" من كل تأثير خارجي. يعرف أن الكوفية تأثرت بثقافات متعددة، يعرف أن معناها تطور عبر التاريخ. لكنه يختار أن يحملها كجزء من تعافيه المستمر من محاولات المحو. ليس شفاءً نهائياً من الصدمة التاريخية، بل تعافياً يومياً معها.

أصالة الشفاء خطية التفكير رغم ادعائها العمق - تبدأ من التقليد وتنتهي بالأصالة. "كنت أتبع الآخرين، الآن أتبع نفسي". أصالة التعافي دائرية حقاً - تعترف بأن التحديات ستعود، أن الأسئلة ستطفو مجدداً، أن الأصالة عملية يومية وليس إنجازاً نهائياً.

هذا ما يجعل الأصالة الفلسطينية أكثر صدقاً من الأصالة الفردانية الغربية. المحاصَر في غزة لا يبحث عن أصالة منفصلة عن واقعه المر، بل عن طريقة أصيلة للتعامل مع هذا الواقع. لا لأن الاحتلال انتهى، بل لأن المقاومة تجد طريقها رغم استمرار الاحتلال.

المعمار الإسلامي في العصر العباسي لم يبحث عن أصالة "خالصة" من التأثيرات البيزنطية والفارسية. بل طور طريقة أصيلة للتعافي من هذه التأثيرات - لم يرفضها ولم يقلدها بعمى، بل أعاد صياغتها وفق حاجاته وسياقه الحضاري.

معنى الأصالة ليس فلسفياً فقط بل جغرافي وسياسي واجتماعي. من يبحث عن الأصالة من موقع الأمان والامتياز يستطيع أن يراها كخيار شخصي وترف فكري. من يبحث عنها من موقع التهديد والمحو يراها كضرورة وجودية لا تحتمل التأجيل.

هذا لا يعني أن أصالة الشفاء خاطئة، بل أنها محدودة الصلاحية. تعمل لمن يستطيع اختيار معنى هويته وظروف تشكلها، تفشل مع من هويته مُهددة من الخارج بالمحو والتشويه. الفرق بين من يختار البحث عن ذاته (الأصالة التأملية) ومن يُجبر على الدفاع عن وجوده (أصالة المقاومة والبقاء).

الأصالة، إذن، ليست مفهوماً واحداً ينطبق على الجميع بالطريقة ذاتها. إنها علاقة مع السياق، طريقة للتعافي المستمر من التحديات، وليس شفاءً نهائياً منها. من هنا تأتي أهمية فهم الأصالة كعملية دائرية وليس كهدف خطي مُنجز.

وهذا الفهم الدائري للأصالة يستدعي منهجًا مركبًا في مقاربتها، يقوم على مبادئ أساسية منها: التقابل الجدلي، وفيه لن أقدم موقفاً واحداً من الأصالة، بل سأعرض كل موضوع من زاويتين متقابلتين: "في تفنيد الأصالة" و"في مديح الأصالة". هذا ليس تردداً أو عدم وضوح، بل اعتراف بتعقد المفهوم وضرورة استكشافه من جوانب متعددة. ومن ثم مبدأ التجربة، سأحاول قدر المستطاع استخدم التجربة الشخصية والحياتية كمعيار أساسي للحكم على صحة الأفكار، وليس النصوص المقدسة أو الآراء السائدة. ما يصمد أمام اختبار التجربة الحقيقية يبقى، وما لا يصمد يسقط. عندما أقول "تجربة" في السياق المفاهيمي، لا يمكن أن تقتصر على مفهوم ومعنى التجربة العلمية، مع أنهما يتشاركان مبدأ واحدا، إلا أنهما يختلفان في الإدخالات والأدوات والمخرجات. لذا لا أفتح هنا بابا للسجال الديني-العلمي-التطوري. ومبدأ السياق والتطبيق، وهو مبدأ عضوي بالنسبة لي لفهم الأصالة، ومن خلاله سأربط كل مفهوم نظري بأمثلة ملموسة من مجالات مختلفة: المعمار، الطعام، العلاقات، العمل، التكنولوجيا. الأصالة لا تُفهم في المجرد بل في التطبيق العملي. الشك كما سبق: لا بد أن أشك في كل تعريف جاهز للأصالة، حتى التعريفات التي سأقدمها. الهدف ليس الوصول لحقيقة مطلقة، بل لفهم أعمق وأدوات أفضل للتفكير. ونهاية لن أكتفي بنقد المفاهيم الموجودة، بل سأحاول تطوير مفاهيم جديدة وأدوات فكرية مبتكرة لفهم الأصالة في السياق المعاصر.

المنهج المركب بالضرورة لا بد أن يطرح أسئلة مركبة ومتقاطعة في الماهية (الأنطولوجيا) والمعرفة (الإبستمولوجيا) والقيمة (الأكسيولوجيا) والعملية أو الممارسة (البراغماتيا) بعضها ورد ضمنا في هذا الفصل صفر، وبعضها سيكون منسجما مع سياقه في الأقسام والفصول القادمة.

بعد هذا التأطير النظري، لا بد أن نسأل، هل هناك تعريف عملي للأصالة؟ ربما لا نستطيع أن نضع تعريفا محددا ليكون مرجعا. وليس هذا الهدف أصلا، الهدف الرئيسي هو استكشاف هذه الإشكالات المفاهيمية، ووضع أطر فكرية متعددة تمس مفهوم الأصالة بشكل قريب أو بعيد. وبشكل أوضح، هذا النص لا يقدم إجابات جاهزة، بل على العكس، هو يهاجم فلسفة الحكمة المعلبة التي غالبا ما تعدنا بالإجابات الجاهزة والنتائج المضمونة. سأحول ضمن السياق والأقسام التالية إيجاد أدوات تفكير تساعدك على تفكيك محيطك الخاص والعام، لتصل إلى معنى الأصالة الخاص بك.

في هذا النص وضعت الأسس النظرية والمنهجية للرحلة القادمة. وفيها سأطرح سؤال الاكتمال المستحيل - الأصالة المطلقة على وجهين: في تفنيد الأصالة، سأكشف الأوهام والمخاطر في المفاهيم الساذجة للأصالة، وأبين كيف يمكن لهذه المفاهيم أن تعيق التطور والإبداع. وفي مديح الأصالة، سأستكشف الضرورة الحيوية للأصالة كموقف وجودي ومقاومة للتنميط والسطحية.

هذا المنهج ليس مقدسًا: قد يكون رفض فكرة الأصالة برمتها — أو البحث عنها — فعلًا أصيلاً بحد ذاته. هذا التناقض الخلاق سيرافقني كظلٍّ في كل المحطات. فلا أهدف للوصول لحكم نهائي، بل لفهم أعمق لمعنى أن تكون أصيلاً في عالم معقد. ومحاولة لتطوير أدوات فكرية ومفاهيمية جديدة تساعدنا على التنقل في هذا التعقيد دون الوقوع في فخاخ التبسيط أو الرومانسية. لا تنس أنني في معرض نقد ومدح الأصالة، أحاول أن أجد "أصالتي الخاصة" التي ربما لا تعني لك شيئا.

تموز ٢٠٢٥