عن الدلالات والاستخدامات

نُشرت
عن الدلالات والاستخدامات

عندما يطغى الاستخدام على المعنى: كيف نفرغ كلماتنا من روحها

مررت اليوم بمحل ملابس، صاحبه صديق لي.. جلست في ركن غير بعيد عن نقطة الاحتشاد التي تتشكل عندما يتواجد أكثر من ثلاثة زبائن في اللحظة ذاتها، وكلهم ينهالون على البائع المشتت بينهم بسيول أسئلتهم. كنت محشوراً هناك في زاوية التقاء علاّقتي التيشيرتات الصينية وبناطيل الصناعة الوطنية، ورأسي مسنود في المنتصف. نجحت بعض الصفقات ومعظمها انتهت على غير خير لصديقي. حتى فرغ المحل الضيق واتسعت مساحته لكلينا.

"أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله" زَفَرَ بها صديقي وأتبعها بتنهيدة عميقة.

مقدمة ضرورية: عن الكلمات في غير محلها

كان لا بد من استحضار هذا المشهد الروائي كمقدمة لازمة للتوضيح. الاستخدامات التي تقع في غير محلها هي ما يعطي للكلمات والجمل دلالاتها وقيمها في دواخلنا، حتى وإن كنا على دراية لغوية واصطلاحية بما نقوله. فالذي يشحذ سكاكينه في وعينا، ويشكل مواقفنا اللاشعورية من الكلمات وحتى المفاهيم، هو الاستخدام الدارج، أو ما اعتدنا على التعبير به في مواقف بذاتها باستخدام أدوات لا تتناسب مع طبيعة الموقف، أو تكون في شكلها الأكثر تطرفاً بعيداً عن أصل معناها وروحه، أو القيمة المعنوية أو الجمالية التي من المفترض أن تبنيها تلك المقولة أو غيرها فينا.

وهذا ليس مقصوراً على الشهادتين وحدهما. فكم مرة سمعنا عبارة "إنا لله وإنا إليه راجعون" وهي تُقال عند كسر كوب ماء، أو تأخر الحافلة، أو نفاد الخبز من الفرن؟ وكم مرة نردد "لا حول ولا قوة إلا بالله" عند مشاهدة منظر مزعج في التلفاز، أو عندما يخطئ اللاعب المفضل لدينا هدفاً سهلاً؟ هذه الاستخدامات المتكررة، وإن بدت بريئة، تحفر في لاوعينا مساراً لا نحسب له حساباً.

استحضار الشهادتين، كما حصل مع صديقي، بعد موقف ضغط وتوتر، أو انزعاج من كائن بشري ما – وهذا كثيراً ما يحدث – يربط الشهادتين في لاوعينا بأثرٍ سلبي أو طاقة سلبية. فبدلاً من أن تكون هذه الكلمات منبع طمأنينة وتذكير بالغاية الأسمى، تصبح تعبيراً عن الإحباط والضجر.

فيتجنشتاين والبحث عن الاستخدام

التوظيف والاستخدام من أهم ما يعيق التمتع بلغة حية قيد الاستخدام والتداول اليومي. يقول فيتجنشتاين في كتابه "تحقيقات فلسفية": "لا تبحث عن المعنى، ابحث عن الاستخدام"، وهذا في سياق محاولاته لفهم اللغة من خلال استخدامها اليومي. فإذا استعرنا مفهوم فيتجنشتاين هذا وأسقطناه على توظيف صديقي للشهادتين في الموقف السردي السابق، فإننا وبكل بساطة، نحجب المعنى عن المقولة الأهم في تاريخ المسلمين ونفرغ بذلك أرواحنا من روحيتها.

ولنأخذ مثالاً آخر أكثر وضوحاً: عبارة "سبحان الله" التي يُفترض أن تكون تسبيحاً وتنزيهاً لله، نجدها تُستخدم بكثرة للتعبير عن الدهشة أو الاستنكار، وأحياناً حتى في سياقات ساخرة. فعندما يرى شخص منظراً غريباً أو سلوكاً مستهجناً، يقول "سبحان الله!" بنبرة تحمل الانتقاد أكثر مما تحمل التسبيح. هكذا تتحول الكلمة من ذكر إلى تعجب، ومن عبادة إلى تعبير عن الاستياء.

إن رأيتم في كلامي تطرفاً، فليردد كل منكم أي مقولة ذات قيمة عليا "كالشهادتين" ويرى أثرها، ليرددها أولاً باللغة العربية بكلماتها وأحرفها، ومن ثم ليحاول ترجمتها إلى لغة أخرى يتقنها، ويرددها مجدداً! ما الفرق؟ الفرق أنّا في اللغات الأخرى نبحث عن المعنى، أما في لغتنا الأم فإننا نحيل الكلمة إلى الاستخدام. ببساطة.

فماذا لو بدّل صديقي لغته في تلك اللحظة فقط وقال: "I bear witness that there is no God but Allah"؟

أعتقد بصراحة أنه سيشعر بشيء من الانفصام وعدم الراحة لأنه أصاب المعنى ولم يصب الاستخدام والقالب. يدخل في هذا العادة والروتين بلا شك، لكن التوظيف والاستخدام من أهم ما يعيق التمتع بلغة حية قيد الاستخدام والتداول اليومي، طبعاً، بعيداً عن لغة الكتابة الأدبية بأنواعها فهي ترمي بظلالها على فئات لا تشكل السواد، للأسف، في مجتمعاتنا اليوم.

مشهد سريالي: عن التشيؤ المبطن في الكلمات

في مشهد سريالي آخر، تنظر زوجة إلى وجه رجُلها بعين حمئة، وتبلع ريقاً بعد ريق، ويكاد بعض الغبار يحويلها إلى جسم صلب. لولا أن زوجها تدارك الموقف ومد يده وبسط راحته ومسح على خدها، فكأنها انفكت من سحر أسود. فقال الزوج بعد أن صارت سائلة بين يديه: "أرنب".

هذا المشهد، وإن بدا غامضاً في ظاهره، يحمل دلالة عميقة عن طريقة استخدامنا للكلمات في العلاقات الحميمة. فكلمة "أرنب" هنا – وهي من الكلمات الشائعة في خطاب الغزل العربي – تحمل في طياتها إشكالية التشبيه الحيواني الذي يختزل الإنسان، وخاصة المرأة، إلى كائن أو "شيء" يمكن امتلاكه والسيطرة عليه.

لا يمكننا الاستفادة من الفقرة السابقة بشيء سوى الربط بين الحالتين، أي المشهد الأول الذي حصل مع صديقي، وهذا الأخير بين الزوجين. وفي كلا المشهدين وظف أحدهم كلمة أو مقولة في غير محلها. ولا أرى أن المجاز يصح دائماً في التعبير عن المُراد، فهناك من يدافع عن نفسه كأن يبرر أن الشهادتين أو الحوقلة في مواقف أخرى هي تعبير عن الحالة التي يمر بها الشخص في تلك اللحظة. ففي توظيف الشهادتين في موقف مشابه، كالذي يخرج من الظلمات إلى النور، وفي الحوقلة التي توظف عادة في مواقف الاعتراض أو "النرفزة" تدلل على "أنا معترض وليس بيدي حيلة"!

معجم الغزل: من الشعر إلى التشيؤ

من مشهد الزوجين الأخير، يمكننا اشتقاق صلة بين التوظيف وبين الاعتبار القائم للآخر الجنسي على سبيل المثال. فكلمة "أرنب" تنطوي على احتمالين: الأول أنه –الزوج– تمكن منها –الزوجة– وصارت بين يديه أرنبة! والاحتمال الآخر، لعله يتغزل بها على طريقة "التشبيه الحيواني" والذي بدوره ينزل بالمتغزل به إلى مرتبة "الشيء"، بمعنى تشييء الآخر.

وهذا المعجم الحيواني في الغزل ليس مقصوراً على كلمة "أرنب" وحدها. فنحن نسمع يومياً تشبيهات مثل "غزالة"، "قطة"، "عصفورة"، "نملة" (للدلالة على الخصر الرفيع)، و"حمامة". وفي المقابل، نجد للرجل تشبيهات حيوانية أخرى مثل "أسد"، "صقر"، "فهد"، والتي تحمل دلالات القوة والسيطرة والافتراس.

هذا التقسيم ليس بريئاً. فالحيوانات المخصصة للمرأة غالباً ما تكون صغيرة، جميلة، ولكنها ضعيفة ومُطاردة. بينما الحيوانات المخصصة للرجل قوية ومفترسة. هكذا يتشكل في لاوعينا الجمعي تصور عن الأدوار: المرأة فريسة جميلة، والرجل صياد قوي.

بعيداً عن الاستعارات الشعرية والأدبية، نبحث هنا عن الاستخدامات اليومية. ومعجم الاستخدام اليومي الخاص بالغزل – في هذا الاحتمال – يحتوي على قائمة طويلة من "الأشياء" –ربما يُعزى هذا لمحدودية اللغة– لكن جليّ وواضح أنه يشكل نظرة تشيئية للأنثى بشكل خاص، وهذه النظرة بيّنة في السلوكيات الاجتماعية والاعتبارات المعنوية.

ولا يقتصر الأمر على الكلمات الدينية أو معجم الغزل، بل يمتد إلى جوانب أخرى كثيرة في حياتنا اليومية. فعبارة "ماشاء الله" مثلاً، والتي يُفترض أن تكون إقراراً بمشيئة الله وحمداً له، نجدها تُستخدم أحياناً بطريقة آلية عند رؤية أي شيء جميل، حتى لو كان في سياق غير مناسب. فنسمعها عند رؤية سيارة فارهة، أو منزل باذخ، أو حتى عند الإعجاب بشيء قد يكون مشكوكاً في مصدره.

وكذلك عبارة "بإذن الله" التي تُستخدم أحياناً كمجرد عادة لغوية عند الحديث عن أي خطة مستقبلية، حتى لو كانت تافهة أو حتى مشكوكة أخلاقياً. فنسمع: "بإذن الله سأشتري هذه السيارة" أو "بإذن الله سنذهب إلى الحفلة"، دون تفكير حقيقي في ما إذا كان هذا الأمر يستحق فعلاً أن نربطه بمشيئة الله.

نحو معاجم جديدة

لا بد لنا من تبنّي معاجم لغوية لاستخدامنا اليومي. هذه المعاجم، كل في موضوعه، من شأنها بناء الثقافة الأمثل لنا بعيداً عن الابتذال والتقليد، وقريباً من المعنى والروح. يقف الأمر على ممارسة التأمل ولو بمقادير مُقتصدة. والأمر يمكن أن يكون بسيطاً جداً أو معقداً بحيث يتطلب أجيالاً لإعادة تشكيل مفهوم الثقافة في مجتمعها. لكن على المستوى الفردي، هناك قاعدة بسيطة وجميلة تنطوي على الشك، لنسمها "الإعادة".

إن الهدف ليس منع استخدام هذه الكلمات نهائياً، بل إعادة النظر في سياقات استخدامها. فالشهادتان لهما مكانهما المقدس في الصلاة والذكر والمواقف الروحية العميقة. و"سبحان الله" لها مكانها في التسبيح الحقيقي عند التفكر في خلق الله ونعمه. والتشبيهات الشعرية لها مكانها في الأدب والشعر الرفيع.

الإعادة كمنهج للتأمل

تتمثل هذه القاعدة لدى إلمور ليونارد بمفهومه عن الكتابة على أنها "إعادة الكتابة"، وفي بعض المدارس الفلسفية بتعريفهم للفلسفة على أنها "إعادة تعلم كيفية النظر إلى العالم".

وهذه "الإعادة" تعني أن نتوقف قليلاً قبل أن ننطق بأي كلمة، وأن نسأل أنفسنا: هل هذه الكلمة في مكانها المناسب؟ هل تحمل المعنى الذي أريد توصيله؟ هل تعكس احترامي للمقدس، أو للآخر، أو حتى لنفسي؟

إن الوعي بالكلمة هو بداية الطريق نحو وعي أعمق بأنفسنا وبالعالم من حولنا. فالكلمات ليست مجرد أصوات نخرجها، بل هي عوالم صغيرة تحمل في طياتها تاريخاً وثقافة ومعتقدات. وعندما نستخدمها بوعي وتقدير، نساهم في بناء عالم أكثر جمالاً وإنسانية.

خاتمة: نحو لغة واعية

في النهاية، ليس المطلوب منا أن نصبح متزمتين لغوياً أو أن نراقب كل كلمة نقولها بطريقة مرهقة. المطلوب هو الوعي البسيط، والتوقف أحياناً للتفكير، والسعي لاستخدام الكلمات في أماكنها المناسبة قدر الإمكان.