كيف أنعي من لا أعرف، أو أعرفه؟ وهو الذي أسمعه كل يوم تقريباً وأفضّل لو أن صوته طغى على آلاته وأصوات المغنيين الآخرين والكورال. لأن صوته، يشبه أغانيه: ناقد للمجتمع والذات، لاذع لا يرحم. هو "الصوت العالي" بالنسبة لي، بهدوئه وطبقاته الإنسانية، صوتٌ موسيقي، لكنه غير مثالي. عندما يغني زياد، تصمت الآلة. لا أظنه كان يبحث عن الكمال التقني، ومسألته لم تكن طبقات صوتية فحسب، بل طبقات مجتمعية، ودينية، وفكرية. كنا نركن إلى أنه "هناك" في بيروت - منزلاً نظارته قليلاً ويلقي نظرات حادة - ننتظر أن يثرينا بالمزيد. لكنها الحياة تمضي "فيك يمّا بلاك" يا زياد. إلا أنك أصررت أنها لا بد وأن تمضي فينا، بإرادتنا، بأسلوبنا. لعل كل ما قدمه جزء صغير مما كان يمكن أن يعطيه لنا. هل أنا مخطئ عندما أسقط كلامه "هيدي الغنية جزء صغير من عقلك والشقا والتعتير" على هذا. كيف لا أكتب عنه وإليه وقد رافقني صوته على مدار ٢٥ عاماً، في كل مناسبة وحال. من مساءلة المجتمع وعاداته، ونقد السلطة وسياساتها، والحب ومشاكله، والفرح وبساطته، حتى تشريح الذات بلا هوادة.
حياة زياد تمردٌ مستمر، بدءاً من مدرسة الرحابنة حتى نفسه. لا يقدم شيئاً ثابتاً متسقاً مستقراً، كل مرة أكتشف شيئاً جديداً من خلاله وربما عنه. كيف لمن يؤلف عملاً مثل "سألوني الناس" المحمل بثقل المشاعر، أن يبدع في عمل ساخر مع صوته الآخر جوزيف صقر "ليه عم تعمل هيك"؟. عناوين أغانيه ومسرحياته، فضلاً عن محتواها، هي تعبير عن وعيه بأصالته المتجددة والمتمردة على كل قالب وشكل رتيب. كلما تعرفت على عمل له أقول "إنه الشكل الجديد للفن" وإذا بي لاحقاً أتساءل "أهو الشكل الجديد للفن"؟
كتب ولحن زياد لفيروز أغاني خالدة مثل "أنا عندي حنين"، "البوسطة"، "عندي ثقة فيك"، "بعتلك"، "ضاق خلقي"، "سلملي عليه"، "حبو بعضن"، "يا جبل الشيخ" والقائمة تطول، حتى أني صرت لا أعرف أن أسمع لفيروز بلا زياد، أو دون أن أتخيله وراء البيانو يعزف ويمد رأسه وصوته بين الحين والآخر. والمهم كذلك أنه أدخل إلى أعمال فيروز نبرة جديدة بعيداً عن رومانسيات المدرسة الرحبانية، لغة موسيقية تتحدث بلسان الجيل الذي عاش الحرب الأهلية اللبنانية وفهم أن الأحلام الوردية لم تعد كافية.
صدقه مع الموسيقى يعطيه حضوراً مختلفاً. عندما قدم "ولعت كتير" لم ينظر إلى مكانته المفترضة كفنان، بل نقل إلينا حواره الصادق مع الموسيقى والذات، وكيف يعيش الإنسان هذه التناقضات، بين اليومي العادي، وبين الفوضى والإبداع. فلم يتردد في توصيف علاقته المؤلمة مع كارمن لبس، وعدم قدرته على توفير الاستقرار اللازم للعلاقة. وقدم نقداً ذاتياً لاذعاً لنمط حياته ولعدم قدرته على توفير بيئة مناسبة للحياة المشتركة، فتحدث عن مشاكل مالية وبيئة متهالكة لا مياه أو كهرباء و"الحيط نصو مهدّى بسيبة".
إيقاع وفحوى أغانيه المقاومة ليست ثورية أو حماسية مثل ما قدم، مثلاً، مرسيل خليفة. هو يعبر عن الرفض والمقاومة بطرق فنية ذكية ومعقدة، غالباً ما تكون ضمن سياق فني أوسع كالمسرحيات التي قدمها. كأنه يقول لنا أن الموقف ضد "المحتل" واضح ولا يحتاج لأعمال فنية لتأويله وترسيخه، لكن موقفنا من ذواتنا هو الذي يحتاج إلى سخريتنا ونقدنا، لتكون أدواتنا في وجه المحتل أكثر قوة وتطوراً وملائمة للواقع.
السعيد عند زياد هو "بلا مخ" وأفضل أشكال الحب عنده "بلا ولا شي"، ربما كتبها بعد معاناته المستمرة - الاقتصادية غالباً - في علاقاته العاطفية. كتب قبلها "عايشة وحدا بلاك" واصفاً قسوة دلال كرم الأولية معه. ثم رفض هذه الأغنية "كأن الواحد لم يعمل غيرها" لأنها انتشرت بشكل واسع واكتسحت الأوساط.
يحوّل العادي إلى موسيقى بصرية، مثل تلفن عياش و"بما إنو" و"الحالة تعبانة يا ليلى" وهدير البوسطة وغيرها. الكلمة والنوتة عنده طريق للفعل وليستا بديلاً عنه. حمل السلاح في الحرب الأهلية، وأبدى استعداده لحمله مرة أخرى إذا لزم الأمر، هو لا يحمل الكلمة أو الموسيقى ترفاً.
مواقفه السياسية وانحيازاته، مزعجة. ولعلها ستظل مادة للسجال والجدل طويلاً. أتخيله يرد "مش فارقة معي". ربما من منظوره كان يدفع بالمستحيل حتى لا يتجدد ويترسخ "زمان الطائفية" والتطرف الموجّه.
أنا لست موسيقياً ولا أعرف ما الإسهامات الموسيقية التي قدمها زياد، لكن ليس لدي شك أنه قلب المشهد الفني، كما قلب نظرتي إلى الفن المسموع. لا أنظر إلى زياد بصفته فناناً بل بصفته الرجل العادي القريب الذي يقدم فناً غير عادي. لا يأخذ نفسه على محمل الجد، لكن يقدم مواقف جادة وصلبة ونقداً لاذعاً للعبث الذي نعيشه.
ما بصح إلا الصحيح، سلام يا زياد
سلام من المنطقة الجنوبية لإلك خاص