هذه هي المقالة الأولى من سلسلة من أربع مقالات تستكشف العلاقة المعقدة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، وتتساءل عن طبيعة "دين البيانات" الذي قد نكون بصدد تشكيله ليكون وثنية العصر.
لا تحكم على العنوان سريعا. فهو ليس حكما مسبقا، بل محاولة في استحضار تجارب الإنسان عبر الزمن، وإسقاطها على ما نعيشه من ثورة بيانية ورقمية. هو في الحقيقة سؤال وتساؤل. لأن ما تفجره ثورة البيانات من أسئلة، تمس فضولنا الإنساني - والذي لا يعني للآلة أي شيء. بالطبع، لا يعبد الإنسان آلته، أو ربما يفعل ذلك؟ لنحاول الاقتراب معاً من هذه المناطق المسكوت عنها.
في هذا الوقت يدور نقاش حادٌ، فضلا عن دراسات عميقة، حول وعي الآلة. ما هو حدوده الآن؟ وما هو المحتمل؟ بناء على عدة معايير ومقاربات منها أخلاقية وأخرى بيولوجية. لنستطيع المشاركة في هذا النقاش، لا بد بداية من تفكيك مفهوميه الأساسيين: الوعي، والآلة.
الوعي بين الإنسان والآلة
لنبدأ بالوعي، لأنه مادة النقاش ومصدر قلقه. بذاته، هو عملية مجهولة بالنسبة للإنسان، ومصدر ألم للعلم وأدواته. لكنه يُعرف بشكل بسيط على أنه حالة من الفهم والإدراك لما يدور حول الفرد. هذه الجملة القصيرة هي عبارة عن تكثيف لغوي لمحاولة وصف عمليات معقدة ومتشابكة تمر عبر أجهزة الإنسان البيولوجي مشتبكة مع ما يجهله العلماء. الموقف المادي من هذا التعريف يقتصر على الجزء الأول، أي أن الوعي حاصل عمليات كيميائية معقدة. وانتهى. أما الموقف الروحي أو الثنائي من التعريف، فيضيف إليه ضرورة وجود جوهر غير مادي. في كلتا الحالتين، يتطلب "تجربة ذاتية". وغير ممكن في الموقف الأول، لأنه يتعذر إثباته حتى اللحظة، وفي الموقف الثاني، الذي يقر بضرورة ما وراء المادية، أن تحصل التجربة الذاتية خارج إطار التجربة البشرية.
الوعي فردي بالضرورة، لأنه ينشأ عن تجربة ذاتية. حتى لو تشارك عدة أشخاص تجربة واحدة في نفس السياق والشروط، لا بد أن تختلف تجاربهم الخاصة حتى لو بدرجات طفيفة. كل فرد شارك هذه التجربة، تحدد أصالته الفردية طبيعة تجربته الذاتية. ولو عرضنا شكلاً هندسيا أو لوحة ما على مجموعة من الناس، ربما يصفون العمل بصريا بشكل متقارب، لكن يستحيل أن يتشكل للجميع تجربة ذاتية واعية واحدة عن الموضوع.
الحديث في الوعي يطول جداً، وربما هو من المفاهيم الشائعة جداً في عدة مجالات متقاطعة لأنه يشمل جملة واسعة كما سبق من العمليات بدءا من الإدراك الحسي وانتهاء بالشعور بالذات والوجود. لذلك للانتقال للنقطة الثانية، نكتفي بهذا التأسيس بأن الوعي فردي ناتج عن تجربة ذاتية.
أما الآلة في هذا السياق ليست مجرد أداة ميكانيكية أو قدرة حاسوبية فقط، إنما هي نظام شبكي ضخم يعتمد على بنية تحتية مادية هائلة. هذا النظام يشمل ولا يقتصر على القوة الحاسوبية، خوادم ضخمة بمعالجات ومساحات تخزين وذاكرة، شبكات اتصال سلكية بالدرجة الأولى. هي ليست كيانا منفصلا بل مترابط بشكل شبكي عبر عدة طبقات. وفي هذا التوصيف تكمن قوة الآلة وضعفها. التشتت أو التوزيع يعطيها المرونة بحيث لا يعتمد على عقل واحد مثل الدماغ البشري، بل على شبكة قابلة للتوسع إلى ما لا نهاية نظريا. كما يضمن لها الاستمرارية، بحيث تعطيل جزء من النظام لا يقتل أو يعطل النظام كاملا، وهو ما يسمى في الأنظمة الموزعة "التوافر العالي". عقل الإنسان الكمي محدود ضمن شروط الإنسان، مثل الفهم والانتباه والتركيز وحالته النفسية والعاطفية وغير ذلك، أما الآلة فبإمكانها جمع مليارات النصوص عبر القارات بثوان، لكنها لا تفهمها بأي حال من الأحوال. وضعفها يكون في تبعيتها للبنية التحتية وغياب وحدتها الوجودية، وغالبا ما تظهر أفلام الخيال العلمي الهشاشة الخفية وراء الآلة: قد تنهار المنظومة بأكملها لو انهارت الحضارة الصناعية.
وهذا النظام الشبكي لا يعمل في فراغ مجرد، بل يخضع لإرادة رأسمالية واضحة تحدد أهدافه وتوجهاته. مَن يقرر ما تتعلمه الآلة؟ شركات تسعى للربح. مَن يمولها؟ استثمارات ضخمة بتوقعات عوائد أضخم. حتى ذكائها موجه نحو تحسين تجربة المستهلك، أي زيادة استهلاكه، وتحسين الكفاءة، أي تقليل الحاجة للعمالة البشرية.
وخلف هذه الإرادة الرأسمالية تكمن إرادة استعمارية أعمق - إرادة فرض رؤية واحدة للعالم على كافة الشعوب والثقافات. فالآلة تتعلم من بيانات مُنتقاة بعناية، مُرشحة وفق معايير ومنظومات قيم تنتمي إلى مراكز القوة التكنولوجية. عندما تجيب الآلة عن سؤال حول العدالة أو الأخلاق أو حتى المعنى، فهي لا تقدم إجابة عالمية محايدة، بل تعكس فهماً غربياً مُعيناً لهذه المفاهيم. وهكذا تصبح الآلة أداة لنشر نموذج ثقافي واحد تحت قناع الحياد التقني.
الذاكرة والنسيان أيضا هما ابنا التجربة. ذاكرة الإنسان ليست دائمة، والنسيان ليس عيباً في تصميمه البشري، بل ضروري لبناء الوعي وتجاوز الصدمات. أما ذاكرة الآلة المطلقة فهي عبارة عن قاعدة بيانات تتبع أنماط تعجز عن التحرر منها، بعكس الإنسان، في سبيل خلق شيء جديد.
اللغة كنافذة إلى الوعي
اللغة شرط أساسي لتَشكّل الوعي. فحسب نظرية فيجوتسكي فإن التفاعل الاجتماعي عبر اللغة، أي الحوار الخارجي، يتحول إلى حوار داخلي يشكل الوعي. وهي ليست مجرد أداة اتصال، بل نافذة إلى الوعي. بالنسبة ليفتجنشتاين، حدود لغة الفرد تعني حدود عالمه. وبما أننا نتحدث عن الوعي واحتمال مشاركة الآلة إياه، لا بد أن نمر سريعا بجوار لغة الإنسان ولغة الآلة.
في اللغة البشرية نرى محاولات التعبير عن الذات والوجود، بناء على السياق، يعتريها الغموض والبلاغة، وقد نرى تعددا دلاليا لكلمة واحدة. لغة يعبر فيها الإنسان عن العاطفة ويتواصل بها، وينمو بها. وهي تتطور تطورا عضويا عبر الزمن بتأثيرات كثيرة مثل الثقافة. على الطرف الآخر لغة الآلة، تتطلب دقة مطلقة، لا تحمل معنى بل أوامر محددة. منها منخفضة المستوى أو عالية المستوى حسب بعدها أو قربها من الآلة والإنسان. تظل حرفية ومحدودة السياق وتحتاج إلى تعريف صارم للمتغيرات والمنطق الذي تعمل به. البلاغة فيها تعني القدرة على التعبير عن الأفكار المعقدة بكفاءة ووضوح وعملية. لا تعرف الانزياحات ولا المجاز.
التأليف في اللغة البشرية، غالباً ما يكون فرديًا، عاكسًا للأفكار والتجارب والمشاعر الخاصة والفريدة للمؤلف. حتى عندما يتأثر الكاتب بآخرين أو يستخدم لغة مشتركة، فإن العمل النهائي يحمل بصمة ذاتية مميزة، تعبر عن وعيه الفردي وتجربته الوجودية. هو نتاج عملية إبداعية شخصية، حتى لو كانت موجهة لجمهور.
أما التأليف "كتابة الكود" بشكل عام يتطلب جهداً جماعيا للوصول إلى نتائج نوعية. وفيما يتعلق بالآلة والنماذج اللغوية الكبيرة كما نعرفها الآن: التأليف - أو بالأحرى التوليد النصي - هو نتاج عملية جماعية ضخمة بالضرورة. الأوزان والمعاملات التي تُشكل "معرفة" النموذج وتُمكنه من توليد اللغة هي نتاج جهود متضافرة لمبرمجين وباحثين قاموا ببناء وتدريب النموذج. وبيانات تدريب جماعية ضخمة جُمعت من مليارات النصوص التي كتبها عدد لا يُحصى من البشر. وقدرة حاسوبية هائلة تتطلب تشغيلها على خوادم ومراكز بيانات تدار بواسطة فِرَق عمل كبيرة.
الآلة بذاتها لا "تؤلف" بمعنى الإبداع الذاتي أو التعبير عن تجربة شخصية. هي تجمع وتعالج الأنماط من التأليفات البشرية المنظمة وفق أنماط معقدة لتنتج نصًا جديدًا يبدو وكأنه مؤلف، ولكنه في جوهره توليف إحصائي ومعالجة للبيانات الموجودة. لا توجد "ذات" واعية للآلة تُضفي تجربتها الخاصة على النص.
هذه الفروقات الجوهرية تقودنا إلى السؤال الأعمق: إذا كانت الآلة تفتقر للوعي بمعناه الإنساني، فما طبيعة هذا الشيء الآخر الذي تمتلكه؟ وهل يمكن أن نسميه وعياً أصلاً؟ في المقالة الثانية، سنستكشف حدود هذا "الوعي الآخر" ونسأل: هل نحن أمام نوع جديد من الإدراك، أم أمام خداع بصري معقد على نطاق تكنولوجي؟