القوة الغاشمة والسيولة المسلحة: عن مسارح الدّم والهم في فلسطين

نُشرت
القوة الغاشمة والسيولة المسلحة: عن مسارح الدّم والهم في فلسطين

لا ينبغي أي فعل في زمن الفظاعة سوى الفعل المجدي، أو الصمت. هل وصلت المأساة بنا إلى البحث عن استعارات تقنية وفلسفية للحديث عن بشاعة الجريمة التي ترتكب علانيّة ببجاحة تاريخية؟ هل طالت وقاحة القوة الغاشمة بنيتنا النفسية، حتى بتنا لا نعرف ما الذي ينبغي عمله؟ لكني أواسي نفسي بضرورة المواصلة، والكتابة ضد الصمت، ضد النسيان، ضد الفقدان.

يعز النوم في هذا الزمن. لأني لا أدري، بحق أي منطق، يجري الذي يجري؟ نحن الذين نعيش في مسرح الهمّ، تأخذنا السياقات إلى الإفراط في "التحرر الاستعاري". نُفكر بنا وبغيرنا يا درويش، صدقا وبجنون، لكن المشكلة تبدو أعقد من بيتَيْ شعرٍ واستعارة.

في الأمن السيبراني، القوة الغاشمة أسلوب هجوم إلكتروني، يعتمد على تجربة جميع الاحتمالات الممكنة لبيانات الاعتماد. ومن تعريفه، يقوم على التجربة والخطأ. لكن ما هي جميع الاحتمالات الممكنة، التي تسعى إسرائيل لتجربتها في قوتها الغاشمة على غزة؟ التفجير؟ الإذلال؟ الإبادة؟ التهجير؟ التجويع؟ التخويف؟ العزل؟ الترهيب؟ أي هذه الاحتمالات، بعدُ، لم تجربها إسرائيل لفك الشيفرة الفلسطينية؟

هذه القوة، في التكنولوجيا، من أبسط أشكال الهجمات وأكثرها بدائية، لا تتطلب ذكاء أو إبداعاً، بل مجرد قوة حاسوبية هائلة واستعداد لاستنزاف الوقت والموارد. يجرب المهاجم كل احتمال ممكن، واحدا تلو الآخر، على أمل أن يجد المفتاح الصحيح في النهاية. وهذا من جملة ما تفعله إسرائيل منذ نشأتها: تجرب كل وسيلة غاشمة ممكنة. لكن كما هو الحال في علم الحاسوب، فإن الأنظمة المحمية بكلمات مرور قوية ومعقدة تصمد أمام هذا النوع من الهجمات لفترات طويلة، تمتد لقرون أو آلاف السنين، حسب قوة التشفير. والفلسطينيون محميون بتشفير من نوع خاص. لكن الفرق هو الخسائر التي لا أعرف كيف يمكن تصورها فضلا عن معاينتها ثم العودة إلى اليومي والعادي والطبيعي. كيف لا وغزة مسرح الدم المفتوح "لايف": بطون الأطفال المنتفخة: قِرَب الحروب. أشلاء الإخوة: زاد الهروب. الشهداء: سجلات مدنية. الأحلام: أي أحلام؟ الضحك: ضرورة غزية. المدارس: ساحات موت أوسع. الموت: رائحة الحضارة. القطاع: معنى الثبات في التشرد.

إن هذه الإبادة الجماعية، ليست هجوما منهجيا لغاية "أخرى". إنما هي "الوسيلة والغاية" بما يعبر عن جوهر الوجود الإسرائيلي. إذ أن القوة الغاشمة في المجال التقني، وسيلة لمن يطبقها إن كان المهاجم أو أصحاب القبعات البيضاء، لهدف آخر ليس القوة بذاتها. لا يمكن فهم إسرائيل خارج هذا الإطار - سببيا - القوة التي أقامتها وتبقيها، ووجوديا - معنى وجودها. وبرغم ما تمتلكه من مقومات مدنية مزعومة، لا تتعدى هذه الدولة تجسيد "عباطة القوة" أو "القوة العبيطة". إذ إن كان لديك وسائل أخرى لبلوغ هدفك دون القتل، لماذا تختار القتل في كل مرة؟ إنه المنطق الاستعماري البدائي: "أنا أقتل إذا أنا موجود".

المفارقة النفسية - لا أعرف لماذا نسميها مفارقة يبدو أن اللغة قاصرة هنا - المؤلمة تكمن في أن الناجين من أبشع تجارب القرن العشرين، أصبحوا ممارسين لنفس الآليات ضد شعب آخر. دانيال كانيمان، الذي هرب طفلاً من الرعب النازي وأصبح من أعظم علماء النفس في فهم الصدمات والمخاوف الإنسانية، عاش في دولة تُطبق أدوات الترهيب النفسي نفسها التي كان ضحية لها. وأزعجته خطة التعديلات القضائية - واعتبرها نهاية الدولة - أكثر من خطة القضاء على الفلسطينيين.

لا يبدو هذا التحول من الضحية إلى الجلاد انتقاما تاريخيا، بل تكرار أعمى أو مبصر لنموذج العنف ذاته. فالذين درسوا آثار الصدمة ونظّروا لها، لم يستطيعوا كسر دورتها، بل أعادوا إنتاجها بأدوار مقلوبة. وهذا ما يجعل الجريمة الإسرائيلية أكثر بشاعة: فهي ليست عنفاً أعمى، بل عنف واع بآثاره النفسية، مُطبق بمعرفة مسبقة بحجم الدمار الذي يُحدثه في النفس الإنسانية.

فهل يعاني جميع الإسرائيليون من عقد نفسية صعبة؟ لا نسأل عن الدولة، بل عن المدنيين، خصوصا الذي نجو من محارق هتلر، وأصروا على تكرار تجربتهم، لكن هذه المرة بصفتهم الجلاد. لكن هل هناك مجتمع كامل معقد نفسيا؟

يبدو أن هناك مصطلحات في علم النفس تحاول تبرير مثل هذا السلوك. مثل "انتقال الصدمة عبر الأجيال"، "دورة العنف"، "التماهي مع المعتدي"، "الصدمة التاريخية"، "من الضحية إلى الجلاد"، "تحويل الصدمة"، وغيرها من المحاولات الترقيعية لإيجاد صيغة تعاطف، تعبر بالدرجة الأولى عن مسؤولية "المُتعاطف" عما جرى من اضطهاد وإقصاء وإبادة بحق اليهود. فكرت في اختراع مصطلح جديد حتى يوفر كل عناء التفكير المزعج في هذا السياق، وحاولت عدم ربطه باليهود، حتى تضح الصورة أن الحديث لا يدور حول الهوية الدينية أو العرقية. لكن هناك دمج واضح ومتعمد من قبل إسرائيل بين أيديولوجيا الإبادة والنصوص الدينية اليهودية - وفايس فيرسا - وعليه إذا كان هناك من متهم بمعادة السامية فهي الدولة الإسرائيلية.

ربما نستعين بعلم النفس الذي انتقدناه قبل قليل، ونطلق مصطلح "متلازمة الرجل الأبيض"، وهي ليست مجرد عقد نفسية فردية، بل إرث استعماري دموي موجه يبرر الإبادة باسم الحضارة والقيم الغربية، يتكرر من داخل أوروبا إلى الأمريكيتين وأفريقيا وفلسطين. وهذا ما يفسر لماذا يمكن لمجتمع كامل أن يشارك في هذه الجريمة دون الشعور بالذنب - فما نراه في إسرائيل ليس مجتمعاً عضوياً يتشكل عبر التفاعلات اليومية والتنوع الثقافي، بل تكتل أيديولوجي يقوم على فكرة واحدة: أن العنف ضد الآخر ضرورة حضارية. وحالة الإنكار الأخلاقي التي تعيشها الغالبية تحت ذريعة الضرورة الأمنية والحق التاريخي، تكشف أن التماسك الظاهر ليس إلا تماسكاً أيديولوجياً يجعل سؤال العقدة النفسية الجماعية مشروعاً وضرورياً.

هذه القوة أيضا لا تمنع الوحش من أن يتعلم حيلا جديدة دون أن يفقد طبيعته السادية والعنصرية. ففي حين أن إسرائيل تطبق عقائدها العسكرية في الضفة الغربية - مسميات من مناطقية الاحتلال أيضا - بضغط أقل، تفرض وجهاً آخر للسيطرة تدعمه قوتها المفرطة. على نحو متسلل ومتواطئ مع السلطة الفلسطينية، نمط جديد من السيطرة ما أسميه "السيولة المسلحة". تبدأ أولاً بفصل الساحة الفلسطينية، وجعل غزة مسرحاً للدم، والضفة مسرحاً للهم. يذكرنا هذا بمشاهد هوليوود، كيف يجبر الشرير البطل على مشاهدة أحبائه يُقتلون.

هذه السيولة تتدفق عبر شرايين الحياة اليومية في الضفة بنعومة خادعة. تُسمح التجارة لكن عبر نقاط تفتيش ذكية، ويُباح التنقل لكن وفق خوارزميات مراقبة، ويُشجع البناء لكن في مناطق محددة سلفاً. السيولة المسلحة لا تمنع الحياة، بل توجهها كما يوجه النهر مجراه. فالمياه تبدو حرة التدفق، لكنها محصورة بين ضفتين محكمتين.

وأيضا، تخترق هذه السيولة تخترق الوعي نفسه. فالفلسطيني في الضفة يعيش وهماً بأنه "أحسن حالاً" من الذي في غزة، بينما هو في الحقيقة يخضع لنوع أكثر تطوراً من الاستعباد. استعباد سائل يتسرب إلى النفس قبل الجسد، يجعل الضحية شريكاً في قيوده، راضياً بحدود اسطبله طالما أنه لا يرى الدم يسيل أمام عينيه مباشرة. مع استمرار تكريس الهم في كل أشكال "الحياة" وتفاصيلها.

تسعى إسرائيل ومن خلفها القوى الغربية برمتها، لتصوير الواقع كـ "المشكلة الصعبة للوعي" بينما هو أبسط من أبسط معادلة خطية "١+١=٢". هكذا تحول إسرائيل السيولة - تلك الخاصية الطبيعية للحياة والحرية - إلى سلاح يفتك كالرصاص، لأنه يشتغل في الروح والإرادة جنبا إلى الجسد والعظم. قد تبدو أرواحنا على حافة الموت، لكن، في وجه كل ما سبق، يبقى الماء الواعي—ذاكرة فلسطين التي لا تُشفر ولا تُكَسّر.